أردوغان لن نسمح بتقسيم سوريا ولا مجال للعودة لما قبل 8 ديسمبر في سوريا
تحليل لتصريحات أردوغان حول سوريا: رؤية تركية متغيرة أم ثوابت استراتيجية؟
يشكل الملف السوري منذ اندلاع الأزمة عام 2011 نقطة ارتكاز في السياسة الخارجية التركية، حيث تداخلت فيه المصالح الأمنية والاقتصادية والإقليمية لأنقرة. وفي هذا السياق، تكتسب التصريحات الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والتي تضمنها فيديو منشور على موقع يوتيوب بعنوان أردوغان لن نسمح بتقسيم سوريا ولا مجال للعودة لما قبل 8 ديسمبر في سوريا (https://www.youtube.com/watch?v=I05_6Cp6WFc)، أهمية بالغة تستدعي التحليل والتفكيك لفهم أبعادها ودلالاتها.
تأتي هذه التصريحات في ظل تحولات إقليمية ودولية متسارعة، تشهدها الساحة السورية، بما في ذلك التقارب التركي-السوري المحتمل برعاية روسية، واستمرار التواجد العسكري التركي في شمال سوريا، وتصاعد التهديدات الأمنية من قبل التنظيمات الكردية المسلحة التي تعتبرها أنقرة امتدادًا لحزب العمال الكردستاني المحظور.
لن نسمح بتقسيم سوريا: التأكيد على وحدة الأراضي السورية كهدف استراتيجي
إن تأكيد أردوغان على عدم السماح بتقسيم سوريا ليس بالأمر الجديد، بل يمثل موقفًا ثابتًا تبنته تركيا منذ بداية الأزمة. يعكس هذا الموقف مخاوف أنقرة من تداعيات التقسيم على أمنها القومي، وخاصةً احتمال قيام كيان كردي مستقل على حدودها الجنوبية، الأمر الذي تعتبره تهديدًا مباشرًا لوحدتها الترابية واستقرارها الداخلي. كما ينسجم هذا الموقف مع المبادئ الأساسية للقانون الدولي التي تحظر التدخل في الشؤون الداخلية للدول وتدعو إلى احترام سيادتها ووحدة أراضيها.
إلا أن الإعلان عن هذا الموقف في هذا التوقيت تحديدًا يحمل دلالات إضافية، فقد يكون رسالة موجهة إلى القوى الإقليمية والدولية التي تسعى إلى تغيير الخريطة الجيوسياسية لسوريا، أو إلى الجماعات الكردية المسلحة التي تطمح إلى إقامة كيان مستقل في شمال سوريا. كما يمكن اعتباره محاولة لتهدئة المخاوف الداخلية في تركيا، والتي تزايدت مع الحديث عن التقارب مع النظام السوري، حيث يخشى البعض من أن يؤدي هذا التقارب إلى تهميش دور تركيا في سوريا والسماح بتقسيم البلاد.
لا مجال للعودة لما قبل 8 ديسمبر في سوريا: الاعتراف بالوقائع الجديدة على الأرض
تمثل عبارة لا مجال للعودة لما قبل 8 ديسمبر في سوريا جوهرًا آخر في تصريحات أردوغان، وتحمل في طياتها اعترافًا ضمنيًا بالوقائع الجديدة التي فرضتها الحرب في سوريا. يشير هذا التصريح إلى أن الوضع الحالي في سوريا يختلف بشكل كبير عما كان عليه قبل هذا التاريخ، وأن العودة إلى الوضع السابق أمر مستحيل. قد يشير تاريخ 8 ديسمبر إلى حدث أو اتفاقية معينة لها تأثير على تطورات الأزمة السورية، أو قد يكون مجرد تاريخ رمزي يمثل نقطة تحول في مسار الأزمة.
يمكن تفسير هذه العبارة على عدة مستويات:
- الاعتراف بالتغيرات الديموغرافية: أدت الحرب إلى تغييرات ديموغرافية كبيرة في سوريا، حيث نزح الملايين من السوريين داخليًا وخارجيًا، وتغيرت التركيبة السكانية في بعض المناطق. وبالتالي، فإن العودة إلى الوضع الديموغرافي السابق أمر غير واقعي.
- الاعتراف بالتغيرات السياسية: أدت الحرب إلى تغييرات كبيرة في المشهد السياسي السوري، حيث ظهرت قوى سياسية جديدة، وتراجع نفوذ قوى أخرى. وبالتالي، فإن العودة إلى النظام السياسي السابق أمر غير ممكن.
- الاعتراف بالتغيرات الأمنية: أدت الحرب إلى انتشار الجماعات المسلحة في سوريا، وتراجع سيطرة الدولة على بعض المناطق. وبالتالي، فإن العودة إلى الوضع الأمني السابق أمر صعب للغاية.
يشير هذا التصريح أيضًا إلى أن تركيا تسعى إلى لعب دور في تشكيل مستقبل سوريا، وأنها لن تسمح بعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحرب. قد يكون هذا الدور من خلال المفاوضات السياسية، أو من خلال التواجد العسكري التركي في شمال سوريا، أو من خلال دعم الجماعات السورية المعارضة.
التقارب التركي-السوري: حسابات استراتيجية أم تكتيك مرحلي؟
لا يمكن فهم تصريحات أردوغان الأخيرة حول سوريا بمعزل عن التطورات المتعلقة بالتقارب التركي-السوري المحتمل. تثير هذه التطورات تساؤلات حول ما إذا كانت تركيا قد غيرت استراتيجيتها تجاه سوريا، وما إذا كانت مستعدة للتعاون مع النظام السوري لتحقيق مصالحها الأمنية والإقليمية.
هناك عدة عوامل قد تكون وراء هذا التقارب المحتمل:
- المخاوف الأمنية المشتركة: تشترك تركيا والنظام السوري في المخاوف من تنامي نفوذ الجماعات الكردية المسلحة في شمال سوريا. وقد يكون التعاون بينهما ضروريًا لمواجهة هذا التهديد.
- المصالح الاقتصادية: يمكن أن يعود التعاون الاقتصادي بين تركيا وسوريا بالفائدة على كلا البلدين، وخاصةً في مجال الطاقة والتجارة.
- الضغوط الروسية: تلعب روسيا دورًا رئيسيًا في سوريا، وتسعى إلى تحقيق الاستقرار في البلاد من خلال التقريب بين تركيا والنظام السوري.
إلا أن هناك أيضًا عقبات كبيرة تعترض طريق هذا التقارب، بما في ذلك:
- الخلافات العميقة حول مستقبل سوريا: تختلف تركيا والنظام السوري حول رؤيتهما لمستقبل سوريا، وخاصةً فيما يتعلق بدور المعارضة السورية والنظام السياسي في البلاد.
- قضية اللاجئين السوريين: تطالب تركيا النظام السوري بتهيئة الظروف لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وهو أمر صعب في ظل استمرار الأوضاع الأمنية والاقتصادية المتردية في سوريا.
- معارضة داخلية في تركيا: يواجه التقارب مع النظام السوري معارضة داخلية في تركيا، وخاصةً من قبل الأحزاب المعارضة التي تتهم الحكومة بالتخلي عن دعم الشعب السوري.
بالنظر إلى هذه العوامل، فمن غير الواضح ما إذا كان التقارب التركي-السوري سيمضي قدمًا، وما إذا كان سيؤدي إلى تغييرات حقيقية في الوضع على الأرض في سوريا. قد يكون هذا التقارب مجرد تكتيك مرحلي يهدف إلى تحقيق أهداف محددة، أو قد يكون بداية لتحول استراتيجي في السياسة التركية تجاه سوريا.
خلاصة
تعكس تصريحات أردوغان الأخيرة حول سوريا موقفًا معقدًا ومتغيرًا، يتأثر بالتحولات الإقليمية والدولية المتسارعة، وبالمصالح الأمنية والاقتصادية لتركيا. بينما تؤكد أنقرة على ثوابتها الاستراتيجية المتمثلة في الحفاظ على وحدة الأراضي السورية ومنع قيام كيان كردي مستقل على حدودها، فإنها في الوقت نفسه تعترف بالوقائع الجديدة التي فرضتها الحرب في سوريا، وتسعى إلى لعب دور في تشكيل مستقبل البلاد.
يبقى السؤال المطروح هو: هل ستتمكن تركيا من تحقيق أهدافها في سوريا من خلال التقارب مع النظام السوري، أم أن هذا التقارب سيؤدي إلى مزيد من التعقيد والغموض في المشهد السوري؟ الإجابة على هذا السؤال ستتضح في الأشهر والسنوات القادمة، وستعتمد على تطورات الأوضاع في سوريا وعلى تفاعلات القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في هذا البلد.
مقالات مرتبطة
Youtube
مدة القراءة
Youtube
مدة القراءة