معنى قوله تعالى ان مثل عيسى عند الله كمثل أدم خلقه من تراب

تحليل معنى قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب

تعد الآية الكريمة إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (آل عمران: 59) من الآيات التي أثارت جدلاً واسعاً بين المفسرين والباحثين، ولا سيما في سياق الحوارات العقائدية حول طبيعة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام. تهدف هذه المقالة إلى تقديم تحليل مفصل لمعنى هذه الآية، مع الأخذ في الاعتبار السياق القرآني الأوسع، و أقوال المفسرين المعتبرين، ومحاولة الإجابة على التساؤلات التي تثيرها.

السياق القرآني للآية

وردت هذه الآية في سورة آل عمران، وهي سورة مدنية نزلت بعد غزوة أحد، وتتميز بمناقشاتها المطولة مع أهل الكتاب، خصوصًا النصارى. تهدف السورة إلى تثبيت عقيدة التوحيد الخالص، والرد على الشبهات التي يثيرها أهل الكتاب حول هذه العقيدة. في هذا السياق، تأتي الآية الكريمة لتبين أن ولادة عيسى عليه السلام بمعجزة لا تجعله إلهاً أو ابناً لله، بل هي دليل على قدرة الله المطلقة، تماماً كما خلق آدم عليه السلام من تراب دون أب أو أم.

الآيات التي تسبق وتلي الآية الكريمة تزيد من وضوح معناها. فالسورة تتحدث عن حوارات مع أهل الكتاب حول طبيعة عيسى، وتذكرهم بآيات الله الواضحة، وتدعوهم إلى اتباع الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ثم تأتي الآية محل البحث لتقطع أي مجال للتشبيه أو التجسيم في حق الله، أو لتأليه عيسى عليه السلام. فالآية تؤكد على أن عيسى عليه السلام هو عبد لله ورسوله، خلقه الله بقدرته، كما خلق آدم عليه السلام.

التفسير اللغوي للآية

لفهم الآية فهماً دقيقاً، يجب التدقيق في معاني الكلمات الواردة فيها:

• إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ: المَثَل هنا بمعنى الشبه والصفة. أي أن صفة عيسى عليه السلام عند الله، من حيث طريقة الخلق، تشبه صفة آدم عليه السلام.
• خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ: أي أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام من تراب دون أب أو أم.
• ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ: هذه العبارة تدل على قدرة الله المطلقة على الخلق والإيجاد. فإذا أراد الله شيئاً، فإنه يكفي أن يقول له كن فيكون.

من خلال هذا التحليل اللغوي، يتضح أن الآية تهدف إلى بيان أن خلق عيسى عليه السلام من أم دون أب، هو أمر ممكن بقدرة الله، ولا يستدعي تأليهاً أو رفعه إلى مقام الألوهية. فالله الذي خلق آدم عليه السلام من تراب دون أب أو أم، قادر على أن يخلق عيسى عليه السلام من أم دون أب.

تفسير المفسرين للآية

اتفق جمهور المفسرين على أن الآية تهدف إلى الرد على النصارى الذين زعموا أن عيسى عليه السلام هو ابن الله، بسبب ولادته من أم دون أب. وقد استدلوا بهذه الولادة المعجزة على ألوهيته. فجاءت الآية لتبين أن هذه الولادة المعجزة لا تدل على الألوهية، بل تدل على قدرة الله المطلقة. فالله الذي خلق آدم عليه السلام من تراب دون أب أو أم، قادر على أن يخلق عيسى عليه السلام من أم دون أب.

يقول الإمام الطبري في تفسيره جامع البيان: يعني بذلك أن عيسى عليه السلام وإن ولد من غير أب، فليس ذلك بموجب أن يكون إلهاً أو ابناً لله، فإن آدم عليه السلام قد خلق من غير أب وأم، فكان خلقه أعجب من خلق عيسى عليه السلام من أم بلا أب.

ويقول الإمام القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: فإذا كان آدم عليه السلام قد خلق من غير أب ولا أم، فكان خلقه أعجب من خلق عيسى عليه السلام من أم بلا أب، فكيف يجوز أن يكون عيسى عليه السلام إلهاً أو ابناً لله، ولا يجوز أن يكون آدم عليه السلام كذلك؟.

ويقول الإمام ابن كثير في تفسيره تفسير القرآن العظيم: أي لا تدل ولادة عيسى من غير أب على أنه ابن الله، فإن آدم عليه السلام مخلوق من غير أب ولا أم، فكان خلقه أعجب من خلق عيسى عليه السلام من أم بلا أب، فكيف يجوز أن يكون عيسى عليه السلام إلهاً أو ابناً لله، ولا يجوز أن يكون آدم عليه السلام كذلك؟.

من خلال أقوال المفسرين، يتضح أن الآية تهدف إلى إقامة الحجة على النصارى، وإبطال حجتهم التي استدلوا بها على ألوهية عيسى عليه السلام.

دلالات الآية وأبعادها

تحمل الآية دلالات وأبعاداً مهمة، منها:

• إثبات قدرة الله المطلقة: فالآية تؤكد على أن الله تعالى قادر على أن يخلق ما يشاء، وكيف يشاء. ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
• إبطال عقيدة التثليث: فالآية تنفي أي شبهة أو احتمال لوجود شريك لله في الألوهية. فالله واحد أحد، لا شريك له ولا ولد.
• بيان مكانة عيسى عليه السلام: فالآية تبين أن عيسى عليه السلام هو عبد لله ورسوله، خلقه الله بقدرته، كما خلق آدم عليه السلام. ولا يجعله هذا الخلق المعجز إلهاً أو ابناً لله.
• دعوة إلى التفكر والتدبر: فالآية تدعو إلى التفكر في خلق الله، والتدبر في آياته، وعدم الانسياق وراء الخرافات والأوهام.

الرد على الشبهات حول الآية

أثيرت بعض الشبهات حول الآية، منها:

• القول بأن الآية تقلل من شأن عيسى عليه السلام: هذا غير صحيح، فالآية لا تقلل من شأن عيسى عليه السلام، بل تبين مكانته الحقيقية كعبد لله ورسوله. والآية تثبت له معجزة الولادة من أم دون أب، وهذا فضل عظيم.
• القول بأن الآية تتناقض مع الآيات الأخرى التي تتحدث عن عيسى عليه السلام: هذا غير صحيح، فالآية لا تتناقض مع أي آية أخرى تتحدث عن عيسى عليه السلام. فالآيات الأخرى تتحدث عن فضائل عيسى عليه السلام ومعجزاته، وهذه الآية تتحدث عن طريقة خلقه، وأنها لا تدل على الألوهية.
• القول بأن الآية لا تقدم تفسيراً مقنعاً لولادة عيسى عليه السلام: هذا غير صحيح، فالآية تقدم تفسيراً مقنعاً لولادة عيسى عليه السلام، فهي تبين أن الله قادر على أن يخلق ما يشاء، وكيف يشاء. ولا يستدعي هذا الخلق المعجز تأليهاً أو رفعه إلى مقام الألوهية.

للرد على هذه الشبهات، يجب فهم الآية في سياقها القرآني، ومعرفة أقوال المفسرين المعتبرين، والتدبر في معاني الكلمات الواردة فيها.

خلاصة

في الختام، يمكن القول أن الآية الكريمة إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (آل عمران: 59) تهدف إلى تثبيت عقيدة التوحيد الخالص، والرد على الشبهات التي يثيرها أهل الكتاب حول هذه العقيدة. فالآية تبين أن ولادة عيسى عليه السلام بمعجزة لا تجعله إلهاً أو ابناً لله، بل هي دليل على قدرة الله المطلقة، تماماً كما خلق آدم عليه السلام من تراب دون أب أو أم. وعلى المسلم أن يتدبر في هذه الآية، وفي غيرها من آيات القرآن الكريم، ليزداد إيماناً ويقيناً.

يمكنكم مشاهدة فيديو اليوتيوب الذي يتناول هذا الموضوع بعمق أكبر على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=0xmwHMXJWFc